الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} هذا الشوط الأول في السورة يبدأ بآية الافتتاح، التي ترد «الناس» إلى رب واحد، وخالق واحد؛ كما تردهم إلى أصل واحد، وأسرة واحدة، وتجعل وحدة الإنسانية هي «النفس» ووحدة المجتمع هي الأسرة، وتستجيش في النفس تقوى الرب، ورعاية الرحم.. لتقيم على هذا الأصل الكبير كل تكاليف التكافل والتراحم في الأسرة الواحدة، ثم في الإنسانية الواحدة. وترد إليه سائر التنظيمات والتشريعات التي تتضمنها السورة. وهذا الشوط يضم من تلك التكاليف ومن هذه التشريعات، ما يتعلق بالضعاف في الأسرة وفي الإنسانية من اليتامى، وتنظم طريقة القيام عليهم وعلى أموالهم كما تنظم طريقة انتقال الميراث بين أفراد الأسرة الواحدة، وأنصباء الأقرباء المتعددي الطبقات والجهات، في الحالات المتعددة.. وهي ترد هذا كله إلى الأصل الكبير الذي تضمنته آية الافتتاح، مع التذكير بهذا الأصل في مطالع بعض الآيات أو في ثناياها، أو في خواتيمها، توثيقاً للارتباط بين هذه التنظيمات والتشريعات، وبين الأصل الذي تنبثق منه، وهو الربوبية التي لها حق التشريع والتنظيم، هذا الحق الذي منه وحده ينبثق كل تشريع وكل تنظيم. {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيباً}.. إنه الخطاب «للناس».. بصفتهم هذه، لردهم جميعاً إلى ربهم الذي خلقهم.. والذي خلقهم {من نفس واحدة}.. {وخلق منها زوجها. وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}.. إن هذه الحقائق الفطرية البسيطة لهي حقائق كبيرة جداً، وعميقة جداً وثقيلة جداً.. ولو ألقى «الناس» أسماعهم وقلوبهم إليها لكانت كفيلة بإحداث تغييرات ضخمة في حياتهم، وبنقلهم من الجاهلية- أو من الجاهليات المختلفة- إلى الإيمان والرشد والهدى، وإلى الحضارة الحقيقية اللائقة «بالناس» و«بالنفس» واللائقة بالخلق الذي ربه وخالقه هو الله.. إن هذه الحقائق تجلو للقلب والعين مجالاً فسيحاً لتأملات شتى: 1- إنها ابتداء تذكر «الناس» بمصدرهم الذي صدروا عنه؛ وتردهم إلى خالقهم الذي أنشأهم في هذه الأرض.. هذه الحقيقة التي ينساها «الناس» فينسون كل شيء! ولا يستقيم لهم بعدها أمر! إن الناس جاءوا إلى هذا العالم بعد أن لم يكونوا فيه.. فمن الذي جاء بهم؟ أنهم لم يجيئوا إليه بإرادتهم. فقد كانوا- قبل أن يجيئوا- عدماً لا إرادة له.. لا إرادة له تقرر المجيء أو عدم المجيء. فإرادة أخرى- إذن- غير إرادتهم، هي التي جاءت بهم إلى هنا.. إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي قررت أن تخلقهم إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي رسمت لهم الطريق، وهي التي اختارت لهم خط الحياة. . إرادة أخرى- غير إرادتهم- هي التي منحتهم وجودهم ومنحتهم خصائص وجودهم، ومنحتهم استعداداتهم ومواهبهم، ومنحتهم القدرة على التعامل مع هذا الكون الذي جيء بهم إليه من حيث لا يشعرون! وعلى غير استعداد، إلا الاستعداد الذي منحتهم إياه تلك الإرادة التي تفعل ما تريد. ولو تذكر الناس هذه الحقيقة البديهية التي يغفلون عنها لثابوا إلى الرشد من أول الطريق.. إن هذه الإرادة التي جاءت بهم إلى هذا العالم، وخطت لهم طريق الحياة فيه، ومنحتهم القدرة على التعامل معه، لهي وحدها التي تملك لهم كل شيء، وهي وحدها التي تعرف عنهم كل شيء، وهي وحدها التي تدبر أمرهم خير تدبير. وإنها لهي وحدها صاحبة الحق في أن ترسم لهم منبع حياتهم، وأن تشرع لهم أنظمتهم وقوانينهم، وأن تضع لهم قيمهم وموازينهم. وهي وحدها التي يرجعون إليها وإلى منهجها وشريعتها وإلى قيمها وموازينها عند الاختلاف في شأن من هذه الشؤون، فيرجعون إلى النهج الواحد الذي أراده الله رب العالمين. 2- كما أنها توحي بأن هذه البشرية التي صدرت من إرادة واحدة، تتصل في رحم واحدة، وتلتقي في وشيجة واحدة، وتنبثق من أصل واحد، وتنتسب إلى نسب واحد: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}.. ولو تذكر الناس هذه الحقيقة، لتضاءلت في حسهم كل الفروق الطارئة، التي نشأت في حياتهم متأخرة، ففرقت بين أبناء «النفس» الواحدة، ومزقت وشائج الرحم الواحدة، وكلها ملابسات طارئة ما كان يجوز أن تطغى على مودة الرحم وحقها في الرعاية، وصلة النفس وحقها في المودة، وصلة الربوبية وحقها في التقوى. واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً باستبعاد الصراع العنصري، الذي ذاقت منه البشرية ما ذاقت، وما تزال تتجرع منه حتى اللحظة الحاضرة؛ في الجاهلية الحديثة، التي تفرق بين الألوان، وتفرق بين العناصر، وتقيم كيانها على أساس هذه التفرقة، وتذكر النسبة إلى الجنس والقوم، وتنسى النسبة إلى الإنسانية الواحدة والربوبية الواحدة. واستقرار هذه الحقيقة كان كفيلاً كذلك باستبعاد الاستعباد الطبقي السائد في وثنية الهند والصراع الطبقي، الذي تسيل فيه الدماء أنهاراً في الدول الشيوعية، والذي ما تزال الجاهلية الحديثة تعتبره قاعدة فلسفتها المذهبية ونقطة انطلاقها إلى تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والربوبية الواحدة التي يرجع إليها الجميع! 3- والحقيقة الأخرى التي تتضمنها الإشارة إلى أنه من النفس الواحدة {خلق منها زوجها}.. كانت كفيلة- لو أدركتها البشرية- أن توفر عليها تلك الأخطاء الأليمة، التي تردت فيها، وهي تتصور في المرأة شتى التصورات السخيفة، وتراها منبع الرجس والنجاسة، وأصل الشر والبلاء. . وهي من النفس الأولى فطرة وطبعاً، خلقها الله لتكون لها زوجاً وليبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، فلا فارق في الأصل والفطرة، إنما الفارق في الاستعداد والوظيفة.. ولقد خبطت البشرية في هذا التيه طويلاً. جردت المرأة من كل خصائص الإنسانية وحقوقها. فترة من الزمان. تحت تأثير تصور سخيف لا أصل له. فلما أن أرادت معالجة هذا الخطأ الشنيع اشتطت في الضفة الأخرى، وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنما هما زوجان متكاملان. والمنهج الرباني القويم يرد البشرية إلى هذه الحقيقة البسيطة بعد ذلك الضلال البعيد.. 4- كذلك توحي الآية بأن قاعدة الحياة البشرية هي الأسرة، فقد شاء الله أن تبدأ هذه النبتة في الأرض بأسرة واحدة. فخلق ابتداء نفساً واحدة، وخلق منها زوجها. فكانت أسرة من زوجين. {وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}.. ولو شاء الله لخلق- في أول النشأة- رجالاً كثيراً ونساء، وزوجهم، فكانوا أسراً شتى من أول الطريق. لا رحم بينها من مبدأ الأمر. ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق الواحد. وهي الوشيجة الأولى. ولكنه- سبحانه- شاء لأمر يعلمه ولحكمة يقصدها، أن يضاعف الوشائج. فيبدأ بها من وشيجة الربوبية- وهي أصل وأول الوشائج- ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى-هما من نفس واحدة وطبيعة واحدة وفطرة واحدة- ومن هذه الأسرة الأولى يبث رجالاً كثيراً ونساء، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الربوبية، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة. التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني. بعد قيامه على أساس العقيدة. ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثرات التي توهن هذا البناء- وفي أول هذه المؤثرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى. وفي هذه السورة وفي غيرها من السور حشد من مظاهر تلك العناية بالأسرة في النظام الإسلامي.. وما كان يمكن أن يقوم للأسرة بناء قوي، والمرأة تلقى تلك المعاملة الجائرة، وتلك النظرة الهابطة التي تلقاها في الجاهلية- كل جاهلية- ومن ثم كانت عناية الإسلام بدفع تلك المعاملة الجائرة ورفع هذه النظرة الهابطة. 5- وأخيراً فإن نظرة إلى التنوع في خصائص الأفراد واستعداداتهم- بعد بثهم من نفس واحدة وأسرة واحدة- على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قط تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأجيال.. التنوع في الأشكال والسمات والملامح. والتنوع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر. والتنوع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف.. إن نظرة إلى هذا التنوع المنبثق من ذلك التجمع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبرة عن علم وحكمة، وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك المتحف الحي العجيب، يتمليان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائماً تتجدد، والتي لا يقدر عليها إلا الله، ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله. فالإرادة التي لا حد لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد! والتأمل في «الناس» على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زاداً من الأنس والمتاع فوق زاد الإيمان والتقوى.. وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع! وفي ختام آية الافتتاح التي توحي بكل هذه الحشود من الخواطر، يردّ «الناس» إلى تقوى الله، الذي يسأل بعضهم بعضاً به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعاً: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}.. واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضاً الوفاء باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه.. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات. .. وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن. أما تقوى الأرحام، فهي تعبير عجيب. يلقي ظلاله الشعورية في النفس. ثم لا يكاد الإنسان يجد ما يشرح به تلك الظلال! اتقوا الأرحام. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها. والإحساس بحقها. وتوقي هضمها وظلمها، والتحرج من خدشها ومسها.. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها.. أرهفوا حساسيتكم بها، وتوقيركم لها، وحنينكم إلى نداها وظلها. ثم رقابة الله يختم بها الآية الموحية: {إن الله كان عليكم رقيباً}.. وما أهولها رقابة! والله هو الرقيب! وهو الرب الخالق الذي يعلم من خلق، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب. من هذا الافتتاح القوي المؤثر، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته: من التكافل في الأسرة والجماعة، والرعاية لحقوق الضعاف فيها، والصيانة لحق المرأة وكرامتها، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع.. ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد. وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعاً في أموالهن. أما السفهاء الذين يُخْشَى من إتلافهم للمال، إذا هم تسلموه، فلا يعطى لهم المال، لأنه في حقيقته مال الجماعة، ولها فيه قيام ومصلحة، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة. {وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم. إنه كان حوباً كبيراً. وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا. وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هينئاً مريئاً. ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً، وارزقوهم فيها واكسوهم، وقولوا لهم قولاً معروفاً. وابتلوا اليتامى، حتى إذا بلغوا النكاح، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم، ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا. ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم، وكفى بالله حسيباً}.. وتشي هذه التوصيات المشددة- كما قلنا- بما كان واقعاً في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة. والأيتام والنساء بصفة خاصة.. هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم المقتطع أصلاً من المجتمع الجاهلي- حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها، وينشئ في الجماعة المسلمة تصورات جديدة، ومشاعر جديدة، وعرفاً جديداً، وملامح جديدة. {وآتوا اليتامى أموالهم، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوباً كبيراً}.. أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد. كأن تأخذوا أرضهم الجيدة، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة، أو ماشيتهم، أو أسهمهم، أو نقودهم- وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة- أو أي نوع من أنواع المال، فيه الجيد وفيه الرديء.. وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم، كلها أو بعضها.. إن ذلك كله كان ذنباً كبيراً. والله يحذركم من هذا الذنب الكبير.. فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة. فالخطاب يشي بأنه كان موجهاً إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور. وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية.. وفي كل جاهلية يقع مثل هذا. ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى. وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق، وشتى الحيل، من أكثر الأوصياء، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر. فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة، ولا الرقابة الظاهرية.. كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد.. التقوى.. فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر، فتصبح للتشريع قيمته وأثره. كما وقع بعد نزول هذه الآية، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم، ويعزلوا طعامه عن طعامهم، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم، الذي حذرهم الله منه وهو يقول: {إنه كان حوباً كبيراً}.. إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات.. ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات. . وهذه التقوى لا تجيش- تجاه التشريعات والتنظيمات- إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر، الرقيبة على الضمائر.. عندئذ يحس الفرد- وهو يهم بانتهاك حرمة القانون- أنه يخون الله، ويعصي أمره، ويصادم إرادته؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله.. وعندئذ تتزلزل أقدامه، وترتجف مفاصله، وتجيش تقواه.. إن الله أعلم بعباده، وأعرف بفطرتهم، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي- وهو خلقهم- ومن ثم جعل التشريع تشريعه، والقانون قانونه، والنظام نظامه، والمنهج منهجه، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته.. وقد علم- سبحانه- أنه لا يطاع أبداً شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب. وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد، تحت تأثير البطش والإرهاب، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة، وكلما واتتهم الحيلة.. مع شعورهم دائماً بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض.. {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا}.. عن عروة بن الزبير- رضي الله عنه- أنه سأل عائشة- رضي الله عنها- عن قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} فقالت: «يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا اليهن؛ ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا من النساء سواهن» قال عروة: قالت عائشة: «وإن الناس استفتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد هذه الآية، فأنزل الله: {ويستفتونك في النساء. قل الله يفتيكم فيهن.. وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن...} قالت عائشة: (وقول الله في هذه الآية الأخرى {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال). وحديث عائشة- رضي الله عنها- يصور جانباً من التصورات والتقاليد التي كانت سائدة في الجاهلية، ثم بقيت في المجتمع المسلم، حتى جاء القرآن ينهى عنها ويمحوها، بهذه التوجيهات الرفيعة، ويكل الأمر إلى الضمائر، وهو يقول: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى}.. فهي مسألة تحرج وتقوى وخوف من الله إذا توقع الولي ألا يعدل مع اليتيمة في حجره، ونص الآية مطلق لا يحدد مواضع العدل، فالمطلوب هو العدل في كل صوره وبكل معانيه في هذه الحالة، سواء فيما يختص بالصداق، أو فيما يتعلق بأي اعتبار آخر. كأن ينكحها رغبة في مالها، لا لأن لها في قلبه مودة. ولا لأنه يرغب رغبة نفسية في عشرتها لذاتها. وكأن ينكحها وهناك فارق كبير من السن لا تستقيم معه الحياة، دون مراعاة لرغبتها هي في إبرام هذا النكاح، هذه الرغبة التي قد لا تفصح عنها حياء أو خوفاً من ضياع مالها إذا هي خالفت عن إرادته.. إلى آخر تلك الملابسات التي يخشى ألا يتحقق فيها العدل.. والقرآن يقيم الضمير حارساً والتقوى رقيباً. وقد أسلف في الآية السابقة التي رتب عليها هذه التوجيهات كلها قوله: {إن الله كان عليكم رقيباً}.. فعندما لا يكون الأولياء واثقين من قدرتهم على القسط مع اليتيمات اللواتي في حجورهم، فهناك النساء غيرهن، وفي المجال متسع للبعد عن الشبهة والمظنة: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع. فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم. ذلك أدنى ألا تعولوا}.. وهذه الرخصة في التعدد، مع هذا التحفظ عند خوف العجز عن العدل، والاكتفاء بواحدة في هذه الحالة، أو بما ملكت اليمين.. هذه الرخصة- مع هذا التحفظ- يحسن بيان الحكمة والصلاح فيها. في زمان جعل الناس يتعالمون فيه على ربهم الذي خلقهم، ويدعون لأنفسهم بصراً بحياة الإنسان وفطرته ومصلحته فوق بصر خالقهم سبحانه! ويقولون في هذا الأمر وذاك بالهوى والشهوة، وبالجهالة والعمى. كأن ملابسات وضرورات جدّت اليوم، يدركونها هم ويقدرونها ولم تكن في حساب الله- سبحانه- ولا في تقديره، يوم شرّع للناس هذه الشرائع!!! وهي دعوى فيها من الجهالة والعمى بقدر ما فيها من التبجح وسوء الأدب بقدر ما فيها من الكفر والضلالة! ولكنها تقال، ولا تجد من يرد الجهال العمي المتبجحين المتوقحين الكفار الضلال عنها! وهم يتبجحون على الله وشريعته، ويتطاولون على الله وجلاله، ويتوقحون على الله ومنهجه، آمنين سالمين غانمين، مأجورين من الجهات التي يهمها أن تكيد لهذا الدين! وهذه المسألة- مسألة إباحة تعدد الزوجات بذلك التحفظ الذي قرره الإسلام- يحسن أن تؤخذ بيسر ووضوح وحسم؛ وأن تعرف الملابسات الحقيقية والواقعية التي تحيط بها.. روى البخاري- بإسناده- «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم- وتحته عشر نسوة- فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: اختر منهن أربعاً». وروى أبو داود- بإسناده- «أن عميرة الأسدي قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فذكرت ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: اختر منهن أربعاً». وقال الشافعي في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزياد يقول: أخبرني عبد المجيد عن ابن سهل ابن عبد الرحمن، عن عوف بن الحارث، «عن نوفل بن معاوية الديلمي، قال: أسلمت وعندي خمس نسوة، فقال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى». فقد جاء الإسلام إذن، وتحت الرجال عشر نسوة أو أكثر أو أقل- بدون حد ولا قيد- فجاء ليقول للرجال: إن هناك حداً لا يتجاوزه المسلم- هو أربع- وإن هناك قيداً- هو إمكان العدل- وإلا فواحدة.. أو ما ملكت أيمانكم.. جاء الإسلام لا ليطلق، ولكن ليحدد.. ولا ليترك الأمر لهوى الرجل، ولكن ليقيد التعدد بالعدل. وإلا امتنعت الرخصة المعطاة! ولكن لماذا أباح هذه الرخصة؟ إن الإسلام نظام للإنسان. نظام واقعي إيجابي. يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، ويتوافق مع واقعه وضروراته، ويتوافق مع ملابسات حياته المتغيرة في شتى البقاع وشتى الأزمان، وشتى الأحوال. إنه نظام واقعي إيجابي، يلتقط الإنسان من واقعه الذي هو فيه، ومن موقفه الذي هو عليه، ليرتفع به في المرتقى الصاعد، إلى القمة السامقة. في غير إنكار لفطرته أو تنكر؛ وفي غير إغفال لواقعه أو إهمال؛ وفي غير عنف في دفعه أو اعتساف! إنه نظام لا يقوم على الحذلقة الجوفاء؛ ولا على التظرف المائع؛ ولا على «المثالية» الفارغة؛ ولا على الأمنيات الحالمة، التي تصطدم بفطرة الإنسان وواقعه وملابسات حياته، ثم تتبخر في الهواء! وهو نظام يرعى خلق الإنسان، ونظافة المجتمع، فلا يسمح بإنشاء واقع مادي، من شأنه انحلال الخلق، وتلويث المجتمع، تحت مطارق الضرورة التي تصطدم بذلك الواقع. بل يتوخى دائماً أن ينشئ واقعاً يساعد على صيانة الخلق، ونظافة المجتمع، مع أيسر جهد يبذله الفرد ويبذله المجتمع. فإذا استصحبنا معنا هذه الخصائص الأساسية في النظام الإسلامي، ونحن ننظر إلى مسألة تعدد الزوجات.. فماذا نرى؟ نرى.. أولاً.. أن هناك حالات واقعية في مجتمعات كثيرة- تاريخية وحاضرة- تبدو فيها زيادة عدد النساء الصالحات للزواج، على عدد الرجال الصالحين للزواج.. والحد الأعلى لهذا الاختلال الذي يعتري بعض المجتمعات لم يُعرف تاريخياً أنه تجاوز نسبة أربع إلى واحد. وهو يدور دائماً في حدودها. فكيف نعالج هذا الواقع، الذي يقع ويتكرر وقوعه، بنسب مختلفة. هذا الواقع الذي لا يجدي فيه الإنكار؟ نعالجه بهز الكتفين؟ أو نتركه يعالج نفسه بنفسه؟ حسب الظروف والمصادفات؟! إن هز الكتفين لا يحل مشكلة! كما أن ترك المجتمع يعالج هذا الواقع حسبما اتفق لا يقول به إنسان جاد، يحترم نفسه، ويحترم الجنس البشري! ولا بد إذن من نظام، ولا بد إذن من إجراء.. وعندئذ نجد أنفسنا أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة من الصالحات للزواج. ثم تبقى واحدة أو أكثر- حسب درجة الاختلال الواقعة- بدون زواج، تقضي حياتها- أو حياتهن- لا تعرف الرجال! 2- أن يتزوج كل رجل صالح للزواج واحدة فقط زواجاً شرعياً نظيفاً. ثم يخادن أو يسافح واحدة أو أكثر، من هؤلاء اللواتي ليس لهن مقابل في المجتمع من الرجال. فيعرفن الرجل خدينا أو خليلاً في الحرام والظلام! 3- أن يتزوج الرجال الصالحون- كلهم أو بعضهم- أكثر من واحدة. وأن تعرف المرأة الأخرى الرجل، زوجة شريفة، في وضح النور لا خدينة وولا خليلة في الحرام والظلام! الاحتمال الأول ضد الفطرة وضد الطاقة بالقياس إلى المرأة التي لا تعرف في حياتها الرجال. ولا يدفع هذه الحقيقة ما يتشدق به المتشدقون من استغناء المرأة عن الرجل بالعمل والكسب. فالمسألة أعمق بكثير مما يظنه هؤلاء السطحيون المتحذلقون المتظرفون الجهال عن فطرة الإنسان. وألف عمل وألف كسب لا تغني المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية.. سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة ومطالب الروح والعقل من السكن والأنس بالعشير.. والرجل يجد العمل ويجد الكسب; ولكن هذا لا يكفيه فيروح يسعى للحصول على العشيرة والمرأة كالرجل- في هذا- فهما من نفس واحدة! والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام النظيف; وضد قاعدة المجتمع الإسلامي العفيف; وضد كرامة المرأة الإنسانية. والذين لا يحفلون أن تشيع الفاحشة في المجتمع هم أنفسهم الذين يتعالمون على الله ويتطاولون على شريعته. لأنهم لا يجدون من يردعهم عن هذا التطاول. بل يجدون من الكائدين لهذا الدين كل تشجيع وتقدير! والاحتمال الثالث هو الذي يختاره الإسلام. يختاره رخصة مقيدة. لمواجهة الواقع الذي لا ينفع فيه هز الكتفين; ولا تنفع فيه الحذلقة والادعاء. يختاره متمشياً مع واقعيته الإيجابية في مواجهة الإنسان كما هو- بفطرته وظروف حياته- ومع رعايته للخلق النظيف والمجتمع المتطهر ومع منهجه في التقاط الإنسان من السفح والرقي به في الدرج الصاعد إلى القمة السامقة. ولكن في يسر ولين وواقعية! ثم نرى.. ثانياً.. في المجتمعات الإنسانية. قديماً وحديثاً. وبالأمس واليوم والغد. إلى آخر الزمان. واقعاً في حياة الناس لا سبيل إلى إنكاره كذلك أو تجاهله. نرى أن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها. فهناك في المتوسط عشرون سنة من سني الإخصاب في حياة الرجل لا مقابل لها في حياة المرأة. وما من شك أن من أهداف اختلاف الجنسين ثم التقائهما امتداد الحياة بالإخصاب والإنسال، وعمران الأرض بالتكاثر والانتشار. فليس مما يتفق مع هذه السنة الفطرية العامة أن نكف الحياة عن الانتفاع بفترة الإخصاب الزائدة في الرجال. ولكن مما يتفق مع هذا الواقع الفطري أن يسن التشريع- الموضوع لكافة البيئات في جميع الأزمان والأحوال- هذه الرخصة- لا على سبيل الإلزام الفردي ولكن على سبيل إيجاد المجال العام الذي يلبي هذا الواقع الفطري ويسمح للحياة أن تنتفع به عند الاقتضاء.. وهو توافق بين واقع الفطرة وبين اتجاه التشريع ملحوظ دائماً في التشريع الإلهي. لا يتوافر عادة في التشريعات البشرية لأن الملاحظة البشرية القاصرة لا تنتبه له ولا تدرك جميع الملابسات القريبة والبعيدة ولا تنظر من جميع الزوايا ولا تراعي جميع الاحتمالات. ومن الحالات الواقعية- المرتبطة بالحقيقة السالفة- ما نراه أحياناً من رغبة الزوج في أداء الوظيفة الفطرية مع رغبة الزوجة عنها- لعائق من السن أو من المرض- مع رغبة الزوجين كليهما في استدامة العشرة الزوجية وكراهية الانفصال- فكيف نواجه مثل هذه الحالات؟ نواجهها بهز الكتفين; وترك كل من الزوجين يخبط رأسه في الجدار؟! أو نواجهها بالحذلقة الفارغة والتظرف السخيف؟ إن هز الكتفين- كما قلنا- لا يحل مشكلة. والحذلقة والتظرف لا يتفقان مع جدية الحياة الإنسانية ومشكلاتها الحقيقية.. وعندئذ نجد أنفسنا- مرة أخرى- أمام احتمال من ثلاثة احتمالات: 1- أن نكبت الرجل ونصده عن مزاولة نشاطه الفطري بقوة التشريع وقوة السلطان! ونقول له: عيب يا رجل! إن هذا لا يليق ولا يتفق مع حق المرأة التي عندك ولا مع كرامتها! 2- أن نطلق هذا الرجل يخادن ويسافح من يشاء من النساء! 3- أن نبيح لهذا الرجل التعدد- وفق ضرورات الحال- ونتوقى طلاق الزوجة الأولى.. الاحتمال الأول ضد الفطرة وفوق الطاقة وضد احتمال الرجل العصبي والنفسي. وثمرته القريبة- إذا نحن أكرهناه بحكم التشريع وقوة السلطان- هي كراهية الحياة الزوجية التي تكلفه هذا العنت ومعاناة جحيم هذه الحياة.. وهذه ما يكرهه الإسلام الذي يجعل من البيت سكناً ومن الزوجة أنساً ولباساً. والاحتمال الثاني ضد اتجاه الإسلام الخلقي وضد منهجه في ترقية الحياة البشرية ورفعها وتطهيرها وتزكيتها كي تصبح لائقة بالإنسان الذي كرمه الله على الحيوان! والاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الفطرة الواقعية ويلبي منهج الإسلام الخلقي ويحتفظ للزوجة الأولى برعاية الزوجية ويحقق رغبة الزوجين في الإبقاء على عشرتهما وعلى ذكرياتهما وييسر على الإنسان الخطو الصاعد في رفق ويسر وواقعية. وشيء كهذا يقع في حالة عقم الزوجة مع رغبة الزوج الفطرية في النسل. حيث يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما: 1- أن يطلقها ليستبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل. 2- أو أن يتزوج بأخرى ويبقي على عشرته مع الزوجة الأولى. وقد يهذر قوم من المتحذلقين- ومن المتحذلقات- بإيثار الطريق الأول. ولكنّ تسعاً وتسعين زوجة- على الأقل- من كل مائة سيتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق! الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور- فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج- وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أنساً واسترواحاً في الأطفال الصغار تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة أياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص. وهكذا حيثما ذهبنا نتأمل الحياة الواقعية بملابساتها العملية التي لا تصغي للحذلقة ولا تستجيب للهذر ولا تستروح للهزل السخيف والتميع المنحل في مواضع الجد الصارم.. وجدنا مظاهر الحكمة العلوية في سن هذه الرخصة مقيدة بذلك القيد: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء- مثنى وثلاث ورباع- فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} فالرخصة تلبي واقع الفطرة وواقع الحياة; وتحمي المجتمع من الجنوح- تحت ضغط الضرورات الفطرية والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال.. والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال ويحمي الزوجة من الجور والظلم; ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة واحتياط كامل. ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة. إن أحداً يدرك روح الإسلام واتجاهه، لا يقول إن التعدد مطلوب لذاته مستحب بلا مبرر من ضرورة فطرية أو اجتماعية; وبلا دافع إلا التلذذ الحيواني وإلا التنقل بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات. إنما هو ضرورة تواجه ضرورة وحل يواجه مشكلة. وهو ليس متروكاً للهوى بلا قيد ولا حد في النظام الإسلامي الذي يواجه كل واقعيات الحياة. فإذا انحرف جيل من الأجيال في استخدام هذه الرخصة. إذا راح رجال يتخذون من هذه الرخصة فرصة لإحالة الحياة الزوجية مسرحاً للذة الحيوانية. إذا أمسوا يتنقلون بين الزوجات كما يتنقل الخليل بين الخليلات. إذا أنشأوا «الحريم» في هذه الصورة المريبة.. فليس ذلك شأن الإسلام; وليس هؤلاء هم الذين يمثلون الإسلام.. إن هؤلاء إنما انحدروا إلى هذا الدرك لأنهم بعدوا عن الإسلام ولم يدركوا روحه النظيف الكريم. والسبب أنهم يعيشون في مجتمع لا يحكمه الإسلام ولا تسيطر فيه شريعته. مجتمع لا تقوم عليه سلطة مسلمة تدين للإسلام وشريعته; وتأخذ الناس بتوجيهات الإسلام وقوانينه وآدابه وتقاليده. إن المجتمع المعادي للإسلام المتفلت من شريعته وقانونه هو المسؤول الأول عن هذه الفوضى. هو المسؤول الأول عن «الحريم» في صورته الهابطة المريبة. هو المسؤول الأول عن اتخاذ الحياة الزوجية مسرح لذة بهيمية. فمن شاء أن يصلح هذه الحال فليرد الناس إلى الإسلام وشريعة الإسلام ومنهج الإسلام; فيردهم إلى النظافة والطهارة والاستقامة والاعتدال.. من شاء الإصلاح فليرد الناس إلى الإسلام لا في هذه الجزئية ولكن في منهج الحياة كلها. فالإسلام نظام متكامل لا يعمل إلا وهو كامل شامل.. والعدل المطلوب هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة. أما العدل في مشاعر القلوب وأحاسيس النفوس فلا يطالب به أحد من بني الإنسان، لأنه خارج عن إرادة الإنسان.. وهو العدل الذي قال الله عنه في الآية الأخرى في هذه السورة: {ولن تستيطعوا أن تعدلوا بين النساء- ولو حرصتم- فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة} هذه الآية التي يحاول بعض الناس أن يتخذوا منها دليلاً على تحريم التعدد. والأمر ليس كذلك. وشريعة الله ليست هازلة حتى تشرع الأمر في آية وتحرمه في آية بهذه الصورة التي تعطي باليمين وتسلب بالشمال! فالعدل المطلوب في الآية الأولى; والذي يتعين عدم التعدد إذا خيف ألا يتحقق; هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة والمباشرة وسائر الأوضاع الظاهرة بحيث لا ينقص إحدى الزوجات شيء منها; وبحيث لا تؤثر واحدة دون الأخرى بشيء منها.. على نحو ما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو أرفع إنسان عرفته البشرية يقوم به. في الوقت الذي لم يكن أحد يجهل من حوله ولا من نسائه أنه يحب عائشة- رضي الله عنها- ويؤثرها بعاطفة قلبية خاصة لا تشاركها فيها غيرها.. فالقلوب ليست ملكاً لأصحابها. إنما هي بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. وقد كان- صلى الله عليه وسلم- يعرف دينه ويعرف قلبه. فكان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك». ونعود فنكرر قبل أن نتجاوز هذه النقطة أن الإسلام لم ينشئ التعدد إنما حدده. ولم يأمر بالتعدد إنما رخص فيه وقيده. وأنه رخص فيه لمواجهة واقعيات الحياة البشرية وضرورات الفطرة الإنسانية. هذه الضرورات وتلك الواقعيات التي ذكرنا بعض ما تكشف لنا حتى الآن منها. وقد يكون وراءها غيرها تظهره أطوار الحياة في أجيال أخرى وفي ظروف أخرى كذلك. كما يقع في كل تشريع أو توجيه جاء به هذا المنهج الرباني وقصر البشر في فترة من فترات التاريخ عن استيعاب كل ما وراءه من حكمة ومصلحة. فالحكمة والمصلحة مفترضتان وواقعتان في كل تشريع إلهي سواء أدركهما البشر أم لم يدركوهما في فترة من فترات التاريخ الإنساني القصير عن طريق الإدراك البشري المحدود! ثم ننتقل إلى الإجراء الثاني الذي تنص عليه الآية عند الخوف من عدم تحقق العدل: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم}.. أي إنه إن خيف عدم العدل في التزوج بأكثر من واحدة تعين الاقتصار على واحدة! ولم يجز تجاوزها. أو {ما ملكت أيمانكم} من الإماء زواجاً أو تسرياً فالنص لم يحدد. ولقد سبق أن وقفنا في الجزء الثاني من هذه الظلال وقفة قصيرة أمام مسألة الرق إجمالاً. فلعله يحسن هنا أن نلم بمسألة الاستمتاع بالإماء خاصة. إن الزواج من مملوكة فيه رد لاعتبارها وكرامتها الإنسانية. فهو مؤهل من مؤهلات التحرير لها ولنسلها من سيدها- حتى ولو لم يعتقها لحظة الزواج- فهي منذ اليوم الذي تلد فيه تسمى «أم ولد» ويمتنع على سيدها بيعها; وتصبح حرة بعد وفاته. أما ولدها فهو حر منذ مولده. وكذلك عند التسري بها. فإنها إذا ولدت أصبحت «أم ولد» وامتنع بيعها وصارت حرة بعد وفاة سيدها. وصار ولدها منه كذلك حراً إذا اعترف بنسبه وهذا ما كان يحدث عادة. فالزواج والتسري كلاهما طريق من طرق التحرير التي شرعها الإسلام وهي كثيرة.. على أنه قد يحيك في النفس شيء من مسألة التسري هذه. فيحسن أن نتذكر أن قضية الرق كلها قضية ضرورة- كما بينا هناك- وأن الضروة التي اقتضت إباحة الاسترقاق في الحرب الشرعية التي يعلنها الإمام المسلم المنفذ لشريعة الله هي ذاتها التي اقتضت إباحة التسري بالإماء; لأن مصير المسلمات الحرائر العفيفات حين يؤسرن كان شراً من هذا المصير! على أنه يحسن ألا ننسى أن هؤلاء الأسيرات المسترقات لهن مطالب فطرية لا بد أن يحسب حسابها في حياتهن ولا يمكن إغفالها في نظام واقعي يراعي فطرة الإنسان وواقعه.. فإما أن تتم تلبية هذه المطالب عن طريق الزواج وإما أن تتم عن طريق تسري السيد ما دام نظام الاسترقاق قائماً كي لا ينشرن في المجتمع حالة من الانحلال الخلقي والفوضى الجنسية لا ضابط لها حين يلبين حاجتهن الفطرية عن طريق البغاء أو المخادنة كما كانت الحال في الجاهلية. أما ما وقع في بعض العصور من الاستكثار من الإماء- عن طريق الشراء والخطف والنخاسة وتجميعهن في القصور واتخاذهن وسيلة للالتذاذ الجنسي البهيمي وتمضية الليالي الحمراء بين قطعان الإماء وعربدة السكر والرقص والغناء.. إلى آخر ما نقلته إلينا الأخبار الصادقة والمبالغ فيها على السواء.. أما هذا كله فليس هو الإسلام. وليس من فعل الإسلام ولا إيحاء الإسلام. ولا يجوز أن يحسب على النظام الإسلامي ولا أن يضاف إلى واقعه التاريخي.. إن الواقع التاريخي «الإسلامي» هو الذي ينشأ وفق أصول الإسلام وتصوراته وشرعته وموازينه. هذا وحده هو الواقع التاريخي «الإسلامي».. أما ما يقع في المجتمع الذي ينتسب إلى الإسلام خارجاً على أصوله وموازينه فلا يجوز أن يحسب منه لأنه انحراف عنه. إن للإسلام وجوده المستقل خارج واقع المسلمين في أي جيل. فالمسلمون لم ينشئوا الإسلام إنما الإسلام هو الذي أنشأ المسلمين. الإسلام هو الأصل والمسلمون فرع عنه ونتاج من نتاجه. ومن ثم فإن ما يصنعه الناس أو ما يفهمونه ليس هو الذي يحدد أصل النظام الإسلامي أو مفهوم الإسلام الأساسي. إلا أن يكون مطابقاً للأصل الإسلامي الثابت المستقل عن واقع الناس ومفهومهم والذي يقاس إليه واقع الناس في كل جيل ومفهومهم ليعلم كم هو مطابق أو منحرف عن الإسلام. إن الأمر ليس كذلك في النظم الأرضية التي تنشأ ابتداء من تصورات البشر ومن المذاهب التي يضعونها لأنفسهم- وذلك حين يرتدون إلى الجاهلية ويكفرون بالله مهما ادعوا أنهم يؤمنون به فمظهر الإيمان الأول بالله هو استمداد الأنظمة من منهجه وشريعته ولا إيمان بغير هذه القاعدة الكبيرة- ذلك أن المفهومات المتغيرة للناس حينئذ والأوضاع المتطورة في أنظمتهم هي التي تحدد مفهوم المذاهب التي وضعوها لأنفسهم وطبقوها على أنفسهم. فأما في النظام الإسلامي الذي لم يصنعه الناس لأنفسهم إنما صنعه للناس رب الناس وخالقهم ورازقهم ومالكهم.. فأما في هذا النظام فالناس إما أن يتبعوه ويقيموا أوضاعهم وفقه; فواقعهم إذن هو الواقع التاريخي «الإسلامي» وإما أن ينحرفوا عنه أو يجانبوه كلية فليس هذا واقعاً تاريخياً للإسلام. إنما هو انحراف عن الإسلام! ولا بد من الانتباه إلى هذا الاعتبار عند النظر في التاريخ الإسلامي. فعلى هذا الاعتبار تقوم النظرية التاريخية الإسلامية وهي تختلف تماماً مع سائر النظريات التاريخية الأخرى التي تعتبر واقع الجماعة الفعلي هو التفسير العملي للنظرية أو المذهب وتبحث عن «تطور» النظرية أو المذهب في هذا الواقع الفعلي للجماعة التي تعتنقه وفي المفهومات المتغيرة لهذه النظرية في فكر الجماعة! وتطبيق هذه النظرة على الإسلام ينافي طبيعته المتفردة ويؤدي إلى أخطار كثيرة في تحديد المفهوم الإسلامي الحقيقي. وأخيراً تفصح الآية عن حكمة هذه الإجراءات كلها.. إنها اتقاء الجور وتحقيق العدل: {ذلك أدنى ألا تعولوا}.. ذلك.. البعد عن نكاح اليتيمات- إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى- ونكاح غيرهن من النساء- مثنى وثلاث ورباع- ونكاح الواحدة فقط- إن خفتم ألا تعدلوا- أو ما ملكت أيمانكم.. {ذلك أدنى ألا تعولوا}.. أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا. وهكذا يتبين أن البحث عن العدل والقسط هو رائد هذا المنهج وهدف كل جزئية من جزئياته.. والعدل أجدر أن يراعي في المحضن الذي يضم الأسرة. وهي اللبنة الأولى للبناء الاجتماعي كله ونقطة الانطلاق إلى الحياة الاجتماعية العامة وفيه تدرج الأجيال وهي لدنة رخصة قابلة للتكيف فإن لم يقم على العدل والود والسلام فلا عدل ولا ود في المجتمع كله ولا سلام. ثم يستطرد السياق في تقرير حقوق النساء- وقد أفرد لهن صدر هذه السورة وسماها باسمهن- قبل أن يستكمل الكلام عن رعاية اليتامى التي بدأ فيها: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة. فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً}. وهذه الآية تنشئ للمرأة حقاً صريحاً وحقاً شخصياً. في صداقها وتنبئ بما كان واقعاً في المجتمع الجاهلي من هضم هذا الحق في صور شتى. واحدة منها كانت في قبض الولي لهذا الصداق وأخذه لنفسه; وكأنما هي صفقة بيع هو صاحبها! وواحدة منها كانت في زواج الشغار. وهو أن يزوج الولي المرأة التي في ولايته في مقابل أن يزوجه من يأخذها امرأة هي في ولاية هذا الآخر. واحدة بواحدة. صفقة بين الوليين لا حظ فيها للمرأتين. كما تبدل بهيمة ببهيمة! فحرم الإسلام هذا الزواج كلية; وجعل الزواج التقاء نفسين عن رغبة واختيار والصداق حقاً للمرأة تأخذه لنفسها ولا يأخذه الولي! وحتم تسمية هذا الصداق وتحديده لتقبضه المرأة فريضة لها وواجباً لا تخلف فيه. وأوجب أن يؤديه الزوج {نحلة}- أي هبة خالصة لصاحبتها- وأن يؤديه عن طيب نفس وارتياح خاطر. كما يؤدي الهبة والمنحة. فإذا طابت نفس الزوجة بعد ذلك لزوجها عن شيء من صداقها- كله أو بعضه- فهي صاحبة الشأن في هذا; تفعله عن طيب نفس وراحة خاطر; والزوج في حل من أخذ ما طابت نفس الزوجة عنه وأكله حلالاً طيباً هنيئاً مريئاً. فالعلاقات بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الرضى الكامل والاختيار المطلق والسماحة النابعة من القلب والود الذي لا يبقى معه حرج من هنا أو من هناك. وبهذا الإجراء استبعد الإسلام ذلك الراسب من رواسب الجاهلية في شأن المرأة وصداقها وحقها في نفسها وفي مالها وكرامتها ومنزلتها. وفي الوقت ذاته لم يجفف ما بين المرأة ورجلها من صلات ولم يقمها على مجرد الصرامة في القانون; بل ترك للسماحة والتراضي والمودة أن تأخذ مجراها في هذه الحياة المشتركة وأن تبلل بنداوتها جو هذه الحياة. فإذا انتهى من هذا الاستطراد- الذي دعا إليه الحديث عن الزواج من اليتيمات ومن غيرهن من النساء- عاد إلى أموال اليتامى; يفصل في أحكام ردها إليهم بعد أن قرر في الآية الثانية من السورة مبدأ الرد على وجه الإجمال. إن هذا المال ولو أنه مال اليتامى إلا أنه- قبل هذا- مال الجماعة أعطاها الله إياه لتقوم به; وهي متكافلة في الانتفاع بهذا المال على أحسن الوجوه فالجماعة هي المالكة ابتداء للمال العام واليتامى أو مورثوهم إنما يملكون هذا المال لاستثماره- بإذن من الجماعة- ويظلون ينتفعون به وينفعون الجماعة معهم ما داموا قادرين على تكثيره وتثميره; راشدين في تصريفه وتدبيره- والملكية الفردية بحقوقها وقيودها قائمة في هذا الإطار- أما السفهاء من اليتامى ذوي المال الذين لا يحسنون تدبير المال وتثميره فلا يسلم لهم ولا يحق لهم التصرف فيه والقيام عليه- وإن بقيت لهم ملكيتهم الفردية فيه لا تنزع منهم- إنما يعود التصرف في مال الجماعة إلى من يحسن التصرف فيه من الجماعة. مع مراعاة درجة القرابة لليتيم تحقيقاً للتكافل العائلي الذي هو قاعدة التكافل العام بين الأسرة الكبرى! وللسفيه حق الرزق والكسوة في ماله مع حسن معاملته: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً}.. ويتبين السفه والرشد- بعد البلوغ- وأمر السفه والرشد لا يخفى عادة ولا يحتاج إلى تحديد مفهومه بالنصوص. فالبيئة تعرف الراشد من السفيه وتأنس رشد هذا وسفه ذاك وتصرفات كل منهما لا تخفى على الجماعة; فالاختبار يكون لمعرفة البلوغ الذي يعبر عنه النص بكلمة: {النكاح} وهو الوظيفة التي يؤهل لها البلوغ: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا. ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف. فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيباً}.. ويبدو من خلال النص الدقة في الإجراءات التي يتسلم بها اليتامى أموالهم عند الرشد. كذلك يبدو التشديد في وجوب المسارعة بتسليم أموال اليتامى إليهم بمجرد تبين الرشد- بعد البلوغ- وتسليمها لهم كاملة سالمة والمحافظة عليها في أثناء القيام عليها وعدم المبادرة إلى أكلها بالإسراف قبل أن يكبر أصحابها فيتسلموها! مع الاستعفاف عن أكل شيء منها مقابل القيام عليها- إذا كان الولي غنياً- والأكل منها في أضيق الحدود- إذا كان الولي محتاجاً- ومع وجوب الإشهاد في محضر التسليم.. وختام الآية: التذكير بشهادة الله وحسابه: {وكفى بالله حسيباً}.. كل هذا التشديد وكل هذا البيان المفصل وكل هذا التذكير والتحذير.. يشي بما كان سائداً في البيئة من الجور على أموال اليتامى الضعاف في المجتمع وبما كان يحتاج إليه تغيير هذا العرف السائد من تشديد وتوكيد ومن بيان وتفصيل لا يدع مجالاً للتلاعب عن أي طريق.. وهكذا كان المنهج الرباني ينسخ معالم الجاهلية في النفوس والمجتمعات ويثبت معالم الإسلام; ويمحو سمات الجاهلية في وجه المجتمع ويثبت ملامح الإسلام. وهكذا كان يصوغ المجتمع الجديد ومشاعره وتقاليده وشرائعه وقوانينه في ظلال تقوى الله ورقابته ويجعلها الضمان الأخير لتنفيذ التشريع. ولا ضمان لأي تشريع في الأرض بغير هذه التقوى وبدون هذه الرقابة: {وكفى بالله حسيباً}.. ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية- في الغالب- إلا التافه القليل. لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرساً ولا يردون عادياً! فإذا شريعة الله تجعل الميراث- في أصله- حقاً لذوي القربى جميعاً- حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد- وذلك تمشياً مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة وفي التكافل الإنساني العام. وحسب قاعدة: الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح فعدلٌ إذن أن يرثه- إن ترك مالاً- بحسب درجة قرابته وتكليفه به. والإسلام نظام متكامل متناسق. ويبدو تكامله وتناسقه واضحاً في توزيع الحقوق والواجبات.. هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة.. وقد نسمع هنا وهناك لغطاً حول مبدأ الإرث لا يثيره إلا التطاول على الله- سبحانه- مع الجهل بطبيعة الإنسان وملابسات حياته الواقعية! إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي يضع حداً لهذا اللغط على الإطلاق.. إن قاعدة هذا النظام هي التكافل.. ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية. هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثاً في الفطرة إنما خلقها لتؤدي دوراً أساسياً في حياة الإنسان. ولما كانت روابط الأسرة- القريبة والبعيدة- روابط فطرية حقيقية; لم يصطنعها جيل من الأجيال; ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام.. لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام. وجعل الإرث مظهراً من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة. فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام. فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة لتكملها وتقويها. فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة جهود الأسرة وجهود الجماعة المحلية المحدودة.. وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة.. أولاً لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نمواً طبيعياً غير مصطنع- فضلاً على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث- أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشئ آثاراً طبيعية تلائم الفطرة.. فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته- وبخاصة ذريته- يحفزه إلى مضاعفة الجهد فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر. لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة. فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج.. وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهداً- كما يقال!- فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجاً وذاك ذا مال. ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج. تمشياً مع قاعدة التكافل العام. ثم إن العلاقة بين المورث والوارث- وبخاصة الذرية- ليست مقصورة على المال. فإذا نحن قطعنا وراثة المال فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى والوراثات الأخرى بينهما. إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده. إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة والانحراف والاستقامة والحسن والقبح والذكاء والغباء.. إلخ. وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ولا تتركهم من عقابيلها أبداً. فمن العدل إذن أن يورثوهم المال. وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء. ولا تملك الدولة- بكل وسائلها- أن تعفيهم من هذه الوراثات. من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية- ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى- شرع الله قاعدة الإرث: {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون- مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضاً}.. هذا هو المبدأ العام الذي أعطى الإسلام به «النساء» منذ أربعة عشر قرناً حق الإرث كالرجال- من ناحية المبدأ- كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم. لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج. أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني ينظر إلى «الإنسان»- أولاً- حسب قيمته الإنسانية. وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال! ثم ينظر إليه- بعد ذلك- حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة. ولما كان نظام التوريث- كما سيجيء- يحجب فيه بعض ذوي القربى بعضاً فيوجد ذوو قرابة ولكنهم لا يرثون لأن من هم أقرب منهم سبقوهم فحجبوهم فإن السياق يقرر للمحجوبين حقاً لا يحدده- إذا هم حضروا القسمة- تطييباً لخاطرهم كي لا يروا المال يفرق وهم محرومون واحتفاظاً بالروابط العائلية والمودات القلبية. كذلك يقرر لليتامى والمساكين مثل هذا الحق تمشياً مع قاعدة التكافل العام: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً}.. وقد وردت في هذه الآية روايات شتى عن السلف. ما بين قولهم إنها منسوخة نسختها آيات الميراث المحددة للأنصبة وقولهم: إنها محكمة. وما بين قولهم: إن مدلولها واجب مفروض وقولهم: إنه مستحب ما طابت به أنفس الورثة.. ونحن لا نرى فيها دليلاً للنسخ ونرى أنها محكمة وواجبة. في مثل هذه الحالات التي ذكرنا. معتمدين على إطلاق النص من جهة وعلى الاتجاه الإسلامي العام في التكافل من جهة أخرى. . وهي شيء آخر غير أنصبة الورثة المحددة في الآيات التالية على كل حال. وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى.. يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين: أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب. والثانية تمس مكان الرهبة من النار والخوف من السعير في مشهد حسي مفزع: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم. فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً. إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}.. وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب. قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار. بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح لا راحم لهم ولا عاصم. كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم بعد أن فقدوا الآباء. فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غداً موكولة إلى من بعدهم من الأحياء كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء.. مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان. وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولاً سديداً وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم.. أما اللمسة الثانية فهي صورة مفزعة: صورة النار في البطون.. وصورة السعير في نهاية المطاف.. إن هذا المال.. نار.. وإنهم ليأكلون هذه النار. وإن مصيرهم لإلى النار فهي النار تشوي البطون وتشوي الجلود. هي النار من باطن وظاهر. هي النار مجسمة حتى لتكاد تحسها البطون والجلود وحتى لتكاد تراها العيون وهي تشوي البطون والجلود! ولقد فعلت هذه النصوص القرآنية بإيحاءاتها العنيفة العميقة فعلها في نفوس المسلمين. خلصتها من رواسب الجاهلية. هزتها هزة عنيفة ألقت عنها هذه الرواسب. وأشاعت فيها الخوف والتحرج والتقوى والحذر من المساس- أي مساس- بأموال اليتامى.. كانوا يرون فيها النار التي حدثهم الله عنها في هذه النصوص القوية العميقة الإيحاء. فعادوا يجفلون أن يمسوها ويبالغون في هذا الإجفال! من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً}.. الآية.. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله: {ويسألونك عن اليتامى. قل: إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم. والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم..} «الآية» فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.. وكذلك رفع المنهج القرآني هذه الضمائر إلى ذلك الأفق الوضيء; وطهرها من غبش الجاهلية ذلك التطهير العجيب. والآن نجيء إلى نظام التوارث. حيث يبدأ بوصية الله للوالدين في أولادهم; فتدل هذه الوصية على أنه- سبحانه- أرحم وأبر وأعدل من الوالدين مع أولادهم; كما تدل على أن هذا النظام كله مرده إلى الله سبحانه; فهو الذي يحكم بين الوالدين وأولادهم وبين الأقرباء وأقاربهم. وليس لهم إلا أن يتلقوا منه سبحانه وأن ينفذوا وصيته وحكمه.. وأن هذا هو معنى «الدين» الذي تعنى السورة كلها ببيانه وتحديده كما أسلفنا.. كذلك يبدأ بتقرير المبدأ العام للتوارث: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.. ثم يأخذ في التفريع وتوزيع الأنصبة في ظل تلك الحقيقة الكلية وفي ظل هذا المبدأ العام.. ويستغرق هذا التفصيل آيتين: أولاهما خاصة بالورثة من الأصول والفروع والثانية خاصة بحالات الزوجية والكلالة. ثم تجيء بقية أحكام الوراثة في آخر آية في السورة استكمالاً لبعض حالات الكلالة (وسنعرضها في موضعها): {يوصيكم الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك. وإن كانت واحدة فلها النصف. ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك- إن كان له ولد- فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث. فإن كان له أخوة فلأمه السدس- من بعد وصية يوصي بها أو دين- آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً. فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً.. ولكم نصف ما ترك أزواجكم- إن لم يكن لهن ولد- فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن- من بعد وصية يوصين بها أو دين- ولهن الربع مما تركتم- إن لم يكن لكم ولد- فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم- من بعد وصية توصون بها أو دين- وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث- من بعد وصية يوصى بها أو دين- غير مضار وصية من الله والله عليم حليم}.. هاتان الآيتان مضافا إليهما الآية الثالثة التي في نهاية السورة ونصها: {يستفتونك. قل: الله يفتيكم في الكلالة: إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك. وهو يرثها- إن لم يكن لها ولد- فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك. وإن كانوا أخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين. يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} هذه الآيات الثلاث تتضمن أصول علم الفرائض- أي علم الميراث- أما التفريعات فقد جاءت السّنة ببعضها نصاً واجتهد الفقهاء في بقيتها تطبيقاً على هذه الأصول. وليس هنا مجال الدخول في هذه التفريعات والتطبيقات فمكانها كتب الفقه- فنكتفي- في ظلال القرآن- بتفسير هذه النصوص والتعقيب على ما تتضمنه من أصول المنهج الإسلامي.. {يوصيكم الله في أولادكم: للذكر مثل حظ الأنثيين..}.. وهذا الافتتاح يشير- كما ذكرنا- إلى الأصل الذي ترجع إليه هذه الفرائض وإلى الجهة التي صدرت منها كما يشير إلى أن الله أرحم بالناس من الوالدين بالأولاد فإذا فرض لهم فإنما يفرض لهم ما هو خير مما يريده الوالدون بالأولاد.. وكلا المعنيين مرتبطان ومتكاملان.. إن الله هو الذي يوصي وهو الذي يفرض وهو الذي يقسم الميراث بين الناس- كما أنه هو الذي يوصي ويفرض في كل شيء وكما أنه هو الذي يقسم الأرزاق جملة- ومن عند الله ترد التنظيمات والشرائع والقوانين وعن الله يتلقى الناس في أخص شؤون حياتهم- وهو توزيع أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم- وهذا هو الدين. فليس هناك دين للناس إذا لم يتلقوا في شؤون حياتهم كلها من الله وحده; وليس هناك إسلام إذا هم تلقوا في أي أمر من هذه الأمور- جل أو حقر- من مصدر آخر. إنما يكون الشرك أو الكفر وتكون الجاهلية التي جاء الإسلام ليقتلع جذورها من حياة الناس. وإن ما يوصي به الله ويفرضه ويحكم به في حياة الناس- ومنه ما يتعلق بأخص شؤونهم وهو قسمة أموالهم وتركاتهم بين ذريتهم وأولادهم- لهو أبر بالناس وأنفع لهم مما يقسمونه هم لأنفسهم ويختارونه لذرياتهم.. فليس للناس أن يقولوا: إنما نختار لأنفسنا. وإنما نحن أعرف بمصالحنا.. فهذا- فوق أنه باطل- هو في الوقت ذاته توقح وتبجح وتعالم على الله وادعاء لا يزعمه إلا متوقح جهول! قال العوفي عن ابن عباس: ({يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين}.. وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس- أو بعضهم- وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن وتعطى الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير. وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة! اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينساه أو نقول له فيغير! فقالوا: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم. ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً- وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ولا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر).. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.. فهذا كان منطق الجاهلية العربية الذي كان يحيك في بعض الصدور; وهي تواجه فريضة الله وقسمته العادلة الحكيمة. . ومنطق الجاهلية الحاضرة الذي يحيك في بعض الصدور اليوم- وهي تواجه فريضة الله وقسمته- لعله يختلف كثيراً أو قليلاً عن منطق الجاهلية العربية. فيقول: كيف نعطي المال لمن لم يكد فيه ويتعب من الذراري؟ وهذا المنطق كذاك.. كلاهما لا يدرك الحكمة ولا يلتزم الأدب; وكلاهما يجمع من ثم بين الجهالة وسوء الأدب! {للذكر مثل حظ الأنثيين}.. وحين لا يكون للميت وارث إلا ذريته من ذكور وإناث فإنهم يأخذون جميع التركة. على أساس أن للبنت نصيباً واحداً وللذكر نصيبين اثنين. وليس الأمر في هذا أمر محاباة لجنس على حساب جنس. إنما الأمر أمر توازن وعدل بين أعباء الذكر وأعباء الأنثى في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي: فالرجل يتزوج امرأة ويكلف إعالتها وإعالة أبنائها منه في كل حالة وهي معه وهي مطلقة منه... أما هي فإما أن تقوم بنفسها فقط وإما أن يقوم بها رجل قبل الزواج وبعده سواء. وليست مكلفة نفقة للزوج ولا للأبناء في أي حال.. فالرجل مكلف- على الأقل- ضعف أعباء المرأة في التكوين العائلي وفي النظام الاجتماعي الإسلامي. ومن ثم يبدو العدل كما يبدو التناسق بين الغنم والغرم في هذا التوزيع الحكيم. ويبدو كل كلام في هذا التوزيع جهالة من ناحية وسوء أدب مع الله من ناحية أخرى وزعزعة للنظام الاجتماعي والأسريّ لا تستقيم معها حياة. ويبدأ التقسيم بتوريث الفروع عن الأصول: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف}. فإذا لم يكن له ذرية ذكور وله بنتان أو أكثر فلهن الثلثان. فإن كان له بنت واحدة فلها النصف.. ثم ترجع بقية التركة إلى أقرب عاصب له: الأب أو الجد. أو الأخ الشقيق. أو الأخ لأب. أو العم. أو أبناء الأصول... والنص يقول: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك}.. وهذا يثبت الثلثين للبنات- إذا كن فوق اثنتين- أما إثبات الثلثين للبنتين فقط فقد جاء من السنة ومن القياس على الأختين في الآية التي في آخر السورة. فأما السنة فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أحد شهيداً; وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً; ولا ينكحان إلا ولهما مال. قال: فقال:» يقضي الله في ذلك «فنزلت آية الميراث. فأرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك». فهذه قسمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للبنتين بالثلثين. فدل هذا على أن البنتين فأكثر لهما الثلثان في هذه الحالة. وهناك أصل آخر لهذه القسمة; وهو أنه لما ورد في الآية الأخرى عن الأختين: {فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك}.. كان إعطاء البنتين الثلثين من باب الأولى قياساً على الأختين. وقد سويت البنت الواحدة بالأخت الواحدة كذلك في هذه الحالة. وبعد الانتهاء من بيان نصيب الذرية يجيء بيان نصيب الأبوين- عند وجودهما- في الحالات المختلفة. مع وجود الذرية ومع عدم وجودها: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك- إن كان له ولد- فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة فلأمه السدس}.. والأبوان لهما في الإرث أحوال: الحال الأول: أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس والبقية للولد الذكر أو للولد الذكر مع أخته الأنثى أو أخواته: للذكر مثل حظ الأنثيين. فإذا لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف وللأبوين لكل واحد منهما السدس وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له في هذه الحالة بين الفرض والتعصيب. أما إذا كان للميت بنتان فأكثر فتأخذان الثلثين ويأخذ كل واحد من الأبوين السدس. والحال الثاني: ألا يكون للميت ولد ولا إخوة ولا زوج ولا زوجة وينفرد الأبوان بالميراث. فيفرض للأم الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب فيكون قد أخذ مثل حظ الأم مرتين. فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف أو الزوجة الربع وأخذت الأم الثلث (إما ثلث التركة كلها أو ثلث الباقي بعد فريضة الزوج أو الزوجة على خلاف بين الأقوال الفقهية) وأخذ الأب ما يتبقى بعد الأم بالتعصيب على ألا يقل نصيبه عن نصيب الأم. والحال الثالث: هو اجتماع الأبوين مع الإخوة- سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم- فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً لأنه مقدم عليهم وهو أقرب عاصب بعد الولد الذكر; ولكنهم- مع هذا- يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس. فيفرض لها معهم السدس فقط. ويأخذ الأب ما تبقى من التركة. إن لم يكن هناك زوج أو زوجة. أما الأخ الواحد فلا يحجب الأم عن الثلث فيفرض لها الثلث معه كما لو لم يكن هناك ولد ولا إخوة. ولكن هذه الأنصبة كلها إنما تجيء بعد استيفاء الوصية أو الدين: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}.. قال ابن كثير في التفسير: «أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية».. وتقديم الدين مفهوم واضح. لأنه يتعلق بحق الآخرين. فلا بد من استيفائه من مال المورث الذي استدان ما دام قد ترك مالاً توفية بحق الدائن وتبرئة لذمة المدين. وقد شدد الإسلام في إبراء الذمة من الدين; كي تقوم الحياة على أساس من تحرج الضمير ومن الثقة في المعاملة ومن الطمأنينة في جو الجماعة فجعل الدين في عنق المدين لا تبرأ منه ذمته حتى بعد وفاته: عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال: «قال رجل: يا رسول الله. أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:» نعم. إن قتلت وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر «. ثم قال:» كيف قلت؟ «فأعاد عليه. فقال: نعم. إلا الدين. فإن جبريل أخبرني بذلك». (أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي). وعن أبي قتادة كذلك: «أتي النبي- صلى الله عليه وسلم- برجل ليصلي عليه. فقال- صلى الله عليه وسلم-:» صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً «فقلت: هو عليَّ يا رسول الله. قال:» بالوفاء؟ «قلت: بالوفاء. فصلى عليه». وأما الوصية فلأن إرادة الميت تعلقت بها. وقد جعلت الوصية لتلافي بعض الحالات التي يحجب فيها بعض الورثة بعضاً. وقد يكون المحجوبون معوزين; أو تكون هناك مصلحة عائلية في توثيق العلاقات بينهم وبين الورثة; وإزالة أسباب الحسد والحقد والنزاع قبل أن تنبت. ولا وصية لوارث. ولا وصية في غير الثلث. وفي هذا ضمان ألا يجحف المورث بالورثة في الوصية. وفي نهاية الآية تجيء هذا اللمسات المتنوعة المقاصد: {آباءكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً. فريضة من الله. إن الله كان عليماً حكيماً}.. واللمسة الأولى لفتة قرآنية لتطييب النفوس تجاه هذه الفرائض. فهنالك من تدفعهم عاطفتهم الأبوية إلى إيثار الأبناء على الآباء لأن الضعف الفطري تجاه الابناء أكبر. وفيهم من يغالب هذا الضعف بالمشاعر الأدبية والأخلاقية فيميل إلى إيثار الآباء. وفيهم من يحتار ويتأرجح بين الضعف الفطري والشعور الأدبي.. كذلك قد تفرض البيئة بمنطقها العرفي اتجاهات معينة كتلك التي واجه بها بعضهم تشريع الإرث يوم نزل وقد أشرنا إلى بعضها من قبل.. فأراد الله سبحانه أن يسكب في القلوب كلها راحة الرضى والتسليم لأمر الله ولما يفرضه الله; بإشعارها أن العلم كله لله; وأنهم لا يدرون أي الأقرباء أقرب لهم نفعاً ولا أي القسم أقرب لهم مصلحة: {آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً}.. واللمسة الثانية لتقرير أصل القضية. فالمسألة ليست مسألة هوى أو مصلحة قريبة. إنما هي مسألة الدين ومسألة الشريعة: {فريضة من الله}.. فالله هو الذي خلق الآباء والأبناء. والله هو الذي أعطى الأرزاق والأموال. والله هو الذي يفرض وهو الذي يقسم وهو الذي يشرع. وليس للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ولا أن يحكموا هواهم كما أنهم لا يعرفون مصلحتهم! {إن الله كان عليماً حكيماً}.. وهي اللمسة الثالثة في هذا التعقيب. تجيء لتشعر القلوب بأن قضاء الله للناس- مع أنه هو الأصل الذي لا يحل لهم غيره- فهو كذلك المصلحة المبنية على العلم والحكمة. فالله يحكم لأنه عليم- وهم لا يعلمون- والله يفرض لأنه حكيم- وهم يتبعون الهوى. وهكذا تتوالى هذه التعقيبات قبل الانتهاء من أحكام الميراث لرد الأمر إلى محوره الأصيل. محوره الاعتقادي. الذي يحدد معنى «الدين» فهو الاحتكام إلى الله. وتلقي الفرائض منه. والرضى بحكمه: {فريضة من الله. إن الله كان عليماً حكيماً}.. ثم يمضي يبين بقية الفرائض: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم- إن لم يكن لهن ولد- فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن- من بعد وصية يوصين بها أو دين. ولهن الربع مما تركتم- إن لم يكن لكم ولد- فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم- من بعد وصية توصون بها أو دين-}.. والنصوص واضحة ودقيقة فللزوج نصف تركة الزوجة إذا ماتت وليس لها ولد- ذكراً أو أنثى- فأما إذا كان لها ولد- ذكراً أو أنثى واحداً أو أكثر- فللزوج ربع التركة. وأولاد البنين للزوجة يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كأولادها. وأولادها من زوج آخر يحجبون الزوج كذلك من النصف إلى الربع.. وتقسم التركة بعد الوفاء بالدين ثم الوصية. كما سبق. والزوجة ترث ربع تركة الزوج- إن مات عنها بلا ولد- فإن كان له ولد- ذكراً أو أنثى. واحداً أو متعدداً. منها أو من غيرها. وكذلك أبناء ابن الصلب- فإن هذا يحجبها من الربع إلى الثمن.. والوفاء بالدين ثم الوصية مقدم في التركة على الورثة.. والزوجتان والثلاث والأربع كالزوجة الواحدة كلهن شريكات في الربع أو الثمن. والحكم الأخير في الآية الثانية حكم من يورث كلالة: {وإن كان رجل يورث كلالة- أو امرأة- وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار}.. والمقصود بالكلالة من يرث الميت من حواشيه- لا من أصوله ولا من فروعه- عن صلة ضعيفة به ليست مثل صلة الأصول والفروع. وقد سئل أبو بكر- رضي الله عنه- عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي. فإن يكن صواباً فمن الله. وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحيي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. (رواه ابن جرير وغيره عن الشعبي).. قال ابن كثير في التفسير: «وهكذا قال علي وابن مسعود. وصح عن غير واحد عن ابن عباس وزيد ابن ثابت. وبه يقول الشعبي والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم. وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف. بل جميعهم. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد».. {وإن كان رجل يورث كلالة- أو امرأة- وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس. فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}.. وله أخ أو أخت- أي من الأم- فلو كانا من الأبوين أو من الأب وحده لورثا وفق ما ورد في الآية الأخيرة من السورة للذكر مثل حظ الأنثيين: لا السدس لكل منهما سواء كان ذكراً أم أنثى. فهذا الحكم خاص بالأخوة من الأم. إذ أنهم يرثون بالفرض- السدس لكل من الذكر أو الأنثى- لا بالتعصيب وهو أخذ التركة كلها أو ما يفضل منها بعد الفرائض: {فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث}.. مهما بلغ عددهم ونوعهم، والقول المعمول به هو أنهم يرثون في الثلث على التساوي. وإن كان هناك قول بأنهم- حينئذ- يرثون في الثلث: للذكر مثل حظ الأنثيين. ولكن الأول أظهر لأنه يتفق مع المبدأ الذي قررته الآية نفسها في تسوية الذكر بالأنثى: {فلكل واحد منهما السدس}.. والإخوة لأم يخالفون- من ثم- بقية الورثة من وجوه: أحدها: أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء. والثاني: أنهم لا يرثون إلا أن يكون ميتهم يورث كلالة. فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن. والثالث: أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم. {من بعد وصية يوصى بها أو دين- غير مضار}.. تحذيراً من أن تكون الوصية للإضرار بالورثة. لتقام على العدل والمصلحة. مع تقديم الدين على الوصية. وتقديمهما معاً على الورثة كما أسلفنا.. ثم يجيء التعقيب في الآية الثانية- كما جاء في الآية الأولى-: {وصية من الله. والله عليم حليم}.. وهكذا يتكرر مدلول هذا التعقيب لتوكيده وتقريره.. فهذه الفرائض {وصية من الله} صادرة منه; ومردها إليه. لا تنبع من هوى، ولا تتبع الهوى. صادرة عن علم.. فهي واجبة الطاعة لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي له حق التشريع والتوزيع. وهي واجبة القبول لأنها صادرة من المصدر الوحيد الذي عنده العلم الأكيد. توكيد بعد توكيد للقاعدة الأساسية في هذه العقيدة. قاعدة التلقي من الله وحده وإلا فهو الكفر والعصيان والخروج من هذا الدين. وهذا ما تقرره الآيتان التاليتان في السورة تعقيباً نهائياً على تلك الوصايا والفرائض. حيث يسميها الله بالحدود: {تلك حدود الله. ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين}.. تلك الفرائض وتلك التشريعات التي شرعها الله لتقسيم التركات وفق علمه وحكمته ولتنظيم العلاقات العائلية في الأسرة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.. {تلك حدود الله}.. حدود الله التي أقامها لتكون هي الفيصل في تلك العلاقات ولتكون هي الحكم في التوزيع والتقسيم. ويترتب على طاعة الله ورسوله فيها الجنة والخلود والفوز العظيم. كما يترتب على تعديها وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين.. لماذا؟ لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية في تشريع جزئي كتشريع الميراث; وفي جزئية من هذا التشريع وحد من حدوده؟ إن الآثار تبدو أضخم من الفعل.. لمن لا يعرف حقيقة هذا الأمر وأصله العميق.. إن هذا الأمر تتولى بيانه نصوص كثيرة في السورة ستجيء. وقد أشرنا إليها في مقدمة التعريف بهذه السورة- وهي النصوص التي تبين معنى الدين، وشرط الإيمان، وحد الإسلام. ولكن لا بأس أن نستعجل بيان هذا الأمر- على وجه الإجمال- بمناسبة هاتين الآيتين الخطيرتين في هذا التعقيب على آيتي المواريث: إن الأمر في هذا الدين- الإسلام- بل في دين الله كله منذ أن أرسل رسله للناس منذ فجر التاريخ.. إن الأمر في دين الله كله هو: لمن الألوهية في هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟ وعلى الإجابة عن هذا السؤال في صيغتيه هاتين يترتب كل شيء في أمر هذا الدين. وكل شيء في أمر الناس أجمعين! لمن الألوهية؟ ولمن الربوبية؟ لله وحده- بلا شريك من خلقه- فهو الإيمان إذن وهو الإسلام وهو الدين. لشركاء من خلقه معه أو لشركاء من خلقه دونه فهو الشرك إذن أو الكفر المبين. فأما إن تكن الألوهية والربوبية لله وحده فهي الدينونة من العباد لله وحده. وهي العبودية من الناس لله وحده. وهي الطاعة من البشر لله وحده وهي الأتباع لمنهج الله وحده بلا شريك.. فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم. والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم. والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم.. وليس لغيره- أفراداً أو جماعات- شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله. لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية. ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة. وأما إن تكن الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله- شركة مع الله أو أصالة من دونه!- فهي الدينونة من العباد لغير الله. وهي العبودية من الناس لغير الله. وهي الطاعة من البشر لغير الله. وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين التي يضعها ناس من البشر لا يستندون في وضعها إلى كتاب الله وسلطانه; إنما يستندون إلى أسناد أخرى يستمدون منها السلطان.. ومن ثم فلا دين ولا إيمان ولا إسلام. إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان.. هذا هو الأمر في جملته وفي حقيقته.. ومن ثم يستوي أن يكون الخروج على حدود الله في أمر واحد أو في الشريعة كلها.. لأن الأمر الواحد هو الدين- على ذلك المعنى- والشريعة كلها هي الدين.. فالعبرة بالقاعدة التي تستند إليها أوضاع الناس.. أهي إخلاص الألوهية والربوبية لله- بكل خصائصها- أو إشراك أحد من خلقه معه. أو استقلال خلقه دونه بالألوهية والربوبية بعضهم على بعض. مهما ادعوا لأنفسهم من الدخول في الدين! ومهما رددت ألسنتهم- دون واقعهم- أنهم مسلمون! هذه هي الحقيقة الكبيرة التي يشير إليها هذا التعقيب الذي يربط بين توزيع أنصبة من التركة على الورثة وبين طاعة الله ورسوله أو معصية الله ورسوله. وبين جنة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها; ونار خالدة وعذاب مهين! وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي تتكئ عليها نصوص كثيرة في هذه السورة وتعرضها عرضاً صريحاً حاسماً لا يقبل المماحكة ولا يقبل التأويل. وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن يتبينها الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام في هذه الأرض ليروا أين هم من هذا الإسلام وأين حياتهم من هذا الدين! ثم لا بد كذلك من إضافة كلمة مجملة عن نظام الإرث في الإسلام; بعد ما ذكرناه عن هذا النظام عندما تعرضنا للآية التي تقرر المبدأ العام: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} وما ذكرناه كذلك عن مبدأ: {للذكر مثل حظ الأنثيين}.. إن هذا النظام في التوريث هو النظام العادل المتناسق مع الفطرة ابتداء; ومع واقعيات الحياة العائلية والإنسانية في كل حال. يبدو هذا واضحاً حين نوازنه بأي نظام آخر عرفته البشرية في جاهليتها القديمة أو جاهليتها الحديثة في أية بقعة من بقاع الأرض على الإطلاق. إنه نظام يراعي معنى التكافل العائلي كاملاً ويوزع الأنصبة على قدر واجب كل فرد في الأسرة في هذا التكافل. فعصبة الميت هم أولى من يرثه- بعد أصحاب الفروض كالوالد والوالدة- لأنهم هم كذلك أقرب من يتكفل به ومن يؤدي عنه في الديات والمغارم. فهو نظام متناسق ومتكامل. وهو نظام يراعي أصل تكوين الأسرة البشرية من نفس واحدة. فلا يحرم امرأة ولا صغيراً لمجرد أنه امرأة أو صغير. لأنه مع رعايته للمصالح العملية- كما بينا في الفقرة الأولى- يرعى كذلك مبدأ الوحدة في النفس الواحدة. فلا يميز جنساً على جنس إلا بقدر أعبائه في التكافل العائلي والاجتماعي. وهو نظام يراعي طبيعة الفطرة الحية بصفة عامة وفطرة الإنسان بصفة خاصة. فيقدم الذرية في الإرث على الأصول وعلى بقية القرابة. لأن الجيل الناشئ هو أداة الامتداد وحفظ النوع. فهو أولى بالرعاية- من وجهة نظر الفطرة الحية- ومع هذا فلم يحرم الأصول ولم يحرم بقية القرابات. بل جعل لكل نصيبه. مع مراعاة منطق الفطرة الأصيل. وهو نظام يتمشى مع طبيعة الفطرة كذلك في تلبية رغبة الكائن الحي- وبخاصة الإنسان- في أن لا تنقطع صلته بنسله وأن يمتد في هذا النسل. ومن ثم هذا النظام الذي يلبي هذه الرغبة ويطمئن الإنسان الذي بذل جهده في ادخار شيء من ثمرة عمله إلى أن نسله لن يحرم من ثمرة هذا العمل وأن جهده سيرثه أهله من بعده. مما يدعوه إلى مضاعفة الجهد ومما يضمن للأمة النفع والفائدة- في مجموعها- من هذا الجهد المضاعف. مع عدم الإخلال بمبدأ التكافل الاجتماعي العام الصريح القوي في هذا النظام. وأخيراً فهو نظام يضمن تفتيت الثروة المتجمعة على رأس كل جيل وإعادة توزيعها من جديد. فلا يدع مجالاً لتضخم الثروة وتكدسها في أيد قليلة ثابتة- كما يقع في الأنظمة التي تجعل الميراث لأكبر ولد ذكر أو تحصره في طبقات قليلة- وهو من هذه الناحية أداة متجددة الفاعلية في إعادة التنظيم الاقتصادي في الجماعة ورده إلى الاعتدال دون تدخل مباشر من السلطات.. هذا التدخل الذي لا تستريح إليه النفس البشرية بطبيعة ما ركب فيها من الحرص والشح. فأما هذا التفتيت المستمر والتوزيع المتجدد; فيتم والنفس به راضية لأنه يماشي فطرتها وحرصها وشحها! وهذا هو الفارق الأصيل بين تشريع الله لهذه النفس وتشريع الناس!!!
|